سورة نوح - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (نوح)


        


{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} أي بأنْ أنذرْهُم، على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذِفَ منها الجارُّ وأُوصلَ إليها الفعلُ، فإنَّ حذفَهُ معَ أنَّ وأنْ مطردٌ، وجُعلتْ صلتُهَا أمراً كما في قولِهِ تعالَى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} لأنَّ مدارَ وصلِهَا بصيغِ الأفعالِ دلالتُهَا على المصدرِ وذلكَ لا يختلفُ بالخبريةِ والإنشائيةِ، ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصولِ الإسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ وهي لا توصفُ إلا بالجملِ الخبريةِ، وليسَ الموصولُ الحرفيُّ كذلكَ وحيثُ استوى الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ استويا في صحةِ الوصلِ بهما فيتجردُ عند ذلكَ كلٌّ منهُمَا عن المَعْنَى الخاصِّ بصيغتِهِ فيبقَى الحدثُ المجردُ عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ والمُضيِّ والاستقبالِ، كأنَّه قيلَ أرسلنَاهُ بالإنذارِ، وقيلَ المَعْنَى أرسلناهُ بأنْ قُلْنَا لهُ أنذرْ أي أرسلناهُ بالأمرِ بالإنذارِ، ويجوزُ أن تكونَ أنْ مفسرةً لما في الإرسالِ من معنى القولِ فلا يكونُ للجملةِ محلٌّ من الإعرابِ، وعلى الأولِ محلُّها النصبُ عند سيبويهِ والفرَّاءِ، والجرُّ عند الخليلِ والكِسَائيِّ كما هُو المعروفُ. وقرئ: {أنذرْ} بغيرِ أنْ على إرادةِ القولِ. {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عاجِلٌ أو آجِلٌ لئلا يبقَى لهُم عذرٌ مَا أصلاً. {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالوجهِ المذكورِ كأنَّه قيلَ ما فعلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فقيلَ قالَ لهُم: {ياقوم إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} منذرٌ موضحٌ لحقيقةِ الأمرِ. وقولُهُ تعالَى: {أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ} متعلقٌ بنذيرٌ على الوجهينِ المذكورينِ {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعضَ ذنوبِكُم وهو ما سلفَ في الجاهليةِ فإنَّ الإسلامَ يجبُّه {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الأمدُ الأقصَى الذي قدَّرَهُ الله تعالَى لهم بشرطِ الإيمانِ والطاعةِ وراءَ ما قدَّرَهُ لهُم على تقديرِ بقائِهِم على الكفرِ والعصيانِ فإنَّ وصفَ الأجلِ بالمسمَّى، وتعليقَ تأخيرِهِم إليهِ بالإيمانِ والطاعةِ صريحٌ في أنَّ لهم أجلاً آخرَ لا يجاوزونَهُ إنْ لم يؤمنُوا وهو المرادُ بقولِهِ تعالَى: {إِنَّ أَجَلَ الله} أي ما قدَّرَ لكُم على تقديرِ بقائِكُم على الكفرِ {إِذَا جَاء} وأنتُم على ما أنتُم عليهِ من الكُفرِ {لاَ يُؤَخَّرُ} فبادِرُوا إلى الإيمانِ والطاعةِ قبلَ مجيئِهِ حَتَّى لا يتحققَ شرطُهُ الذي هو بقاؤُكُم على الكفرِ فلا يجيءَ، ويتحققَ شرطُ التأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فتؤخرُوا إليهِ ويجوزُ أن يرادَ بهِ وقتُ إتيانِ العذابِ المذكورِ في قولِهِ تعالَى: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فإنَّه أجلٌ موقتٌ له حَتْماً وحملُهُ على الأجلِ الأطولِ مما لا يساعدُهُ المقامُ كيفَ لاَ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالعبادةِ المستتبعةِ للمغفرةِ والتأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فلا بُدَّ أنْ يكونَ المنفيُّ عند مجيءِ الأجلِ هو التأخيرَ الموعودَ فكيفَ يتصورُ أن يكونَ ما فُرضَ مجيئُهُ هو الأجلُ المسمَّى. {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتُم تعلمونَ شيئاً لسارعتُم إلى ما أمرتُكُم بهِ.


{قَالَ} أي نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مناجياً ربَّهُ وحاكياً له تعالَى وهو أعلمُ بحالِهِ ما جرَى بينَهُ وبينَ قومه من القيلِ والقالِ في تلكَ المددِ الطوالِ بعدَ ما بذلَ في الدعوةِ غايةَ المجهودِ وجاوزَ في الإنذارِ كلَّ حدَ معهودٍ وضاقتْ عليهِ الحيلُ وعيت بهِ العللُ. {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى} إلى الإيمانِ والطَّاعةِ {لَيْلاً وَنَهَاراً} أي دائماً من غيرِ فتورٍ ولا توانٍ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} ممَّا دعوتُهُم إليهِ وإسنادُ الزيادةِ إلى الدعاءِ لسببيتِهِ لها كما في قولِهِ تعالَى: {زَادَتْهُمْ إيمانا} {وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} أي إلى الإيمانِ {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بسببهِ {جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم} أيْ سدُّوا مسامِعَهُم منِ استماعِ الدعوةِ {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي بالغُوا في التغطِّي بهَا كأنَّهُم طلبُوا أنْ تغشاهُم ثيابُهُم أو تُغشِّيهم لئلا يُبصروه كراهةَ النظرِ إليهِ أو لئلا يعرفَهُم فيدعُوَهُم {وَأَصَرُّواْ} أي أكبُّوا على الكفرِ والمعاصِي مستعارٌ منْ أصرَّ الحمارُ على العانةِ إذَا أصرَّ أذنيهِ وأقبلَ عليهَا {واستكبروا} عن اتِّباعي وطاعتي {استكبارا} شديداً {ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا * ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي دعوتُهُم تارةً جهراً ومرةً غبَ مرةٍ على وجوهٍ مُتخالفةٍ وأساليبَ متفاوتةٍ، وثُمَّ لتفاوتِ الوجوهِ فإنَّ الجِهارَ أشدُّ من الإسرارِ، والجمعُ بينَهُمَا أغلظُ من الإفرادِ أو لتراخِي بعضِهَا عن بعضٍ، وجهاراً منصوبٌ بدعوتُهُم على المصدرِ لأنَّه أحدُ نَوْعَيْ الدعاءِ أو أُريدَ بدعوتُهُم جاهرتُهُم أو هو صفةٌ لمصدرٍ أي دعوتُهُم دعاءً جهاراً أي مُجاهِراً به أو مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي مُجاهراً.


{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} بالتوبةِ عن الكفرِ والمَعَاصِي {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} للتائبينَ كأنَّهُم تعللُوا وقالُوا إنْ كُنَّا على الحقِّ فكيفَ نتركهُ وإنْ كُنَّا على الباطلِ فكيفَ يقبلنا بعدَ ما عكفنَا عليهِ دَهْراً طويلاً فأمرهم بما يمحقُ ما سلفَ منهم من المَعَاصِي ويجلبُ إليهم المنافعَ ولذلكَ وعدهُم بما هُو أوقعُ في قلوبِهِم وأحبُّ إليهِم من الفوائدِ العاجلةِ، وقيل لما كذَّبُوه بعدَ تكريرِ الدعوةِ حبسَ الله تعالَى عنهم القطرَ وأعقمَ أرحامَ نسائِهِم أربعينَ سنةً وقيلَ سبعينَ سنةً فوعدَهُم أنَّهم إنْ آمنُوا أنْ يرزقَهُم الله تعالَى الخِصْبَ ويدفَع عنْهُم ما كانُوا فيهِ {يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} أي كثيرَ الدرورِ، والمرادُ بالسماءِ المظلةُ أو السحابُ {وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات} بساتينَ {وَيَجْعَل لَّكُمْ} فيهَا {أَنْهَاراً} جاريةً {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم سببٌ ما في عدمِ رجائِهِم لله تعالَى وقاراً على أنَّ الرجاءَ بمَعْنَى الاعتقادِ، ولا ترجونَ حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ والعاملُ فيهَا مَعْنَى الاستقرارِ في لكُم على أنَّ الإنكارَ متوجهٌ إلى السببِ فَقَطْ مع تحققِ مضمونِ الجملةِ الحاليةِ لا إليهِما معاً كما في قولِهِ تعالَى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى} ولله متعلقٌ بمضمرٍ وقعَ حالاً مِنْ وقاراً ولو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أيْ أيُّ سببٍ حصلَ لكُم حالَ كونِكُم غيرَ معتقدينَ لله تعالَى عظمةً موجبةً لتعظيمِهِ بالإيمانِ بهِ والطاعةِ لهُ {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي والحالُ أنكم على حالٍ منافيةٍ لما أنتُم عليهِ بالكليةِ وهيَ أنكم تعلمونَ أنَّه تعالَى خلقَكُم تاراتٍ عناصرَ ثم أغذيةً ثم أخلاطاً ثم نُطفاً ثم علَقاً ثم مُضَغاً ثم عظاماً ولحوماً ثم أنشأ كم خلقاً آخرَ فإن التقصيرَ في توقيرِ مَنْ هذهِ شؤونُهُ في القدرةِ القاهرةِ والإحسانِ التامِّ مع العلمِ بها مِمَّا لا يكادُ يصدرُ عن العاقلِ. هَذا وقد قيلَ الرجاءُ بمعنى الأملِ أي ما لكُم لا تُؤمِّلُونَ لهُ تعالَى توقيراً أي تعظيماً لمن عبدَهُ وأطاعَهُ ولا تكونونَ على حالٍ تُؤمِّلُونَ فيها تعظيمَ الله تعالَى إيَّاكُم في دارِ الثوابِ، ولله بيانٌ للموقّرِ ولو تأخرَ لكانَ صلةً للوقارِ والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالةُ التنزيليةُ فإن اللائقَ بحالِ الكفرةِ استبعادُ أنْ لا يعتقدُوا وقاراً لله تعالَى وعظمتِهِ مع مشاهدَتِهِم لآثارِهَا وأحكامِهَا الموجبةِ للاعتقادِ حَتْماً، وأمَّا عدمُ رجائِهِم لتعظيمِ الله إيَّاهُم في دارِ الثوابِ فليسَ في حيزِ الاستبعادِ والإنكارِ معَ أنَّ في جعلِ الوقارِ بمَعْنَى التوقيرِ من التعسفِ، وفي قولِهِ ولله بيانٌ للموقَّرِ ولو تأخرَ لكانَ صلةً للوقارِ من التناقضِ ما لا يَخْفى فإنَّ كونَهُ بياناً للموقِّرِ يقتضِي أنْ يكونَ التوقيرُ صادراً عنْهُ تعالَى والوقارَ وصفاً للمخاطبينَ وكونُهُ صلةً للوقارِ يوجبُ كونَ الوقارِ وصفاً لهُ تعالَى وقيلَ ما لكُم لا تخافونَ لله عظمةً وقدرةً على أخذِكُم بالعقوبةِ أيْ أيُّ عُذرٍ لكُم في تركِ الخوفِ منهُ تعالَى. وعن سعيدِ بنِ جُبيرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا ما لكُم لا تخشُونَ لله عقاباً ولاترجونَ منْهُ ثَواباً، وعن مجاهدٍ والضحَّاكِ ما لكُم لا تُبالونَ لله عظمةً، قال قُطْربٌ هيَ لغةٌ حجازيةٌ يقولونَ لم أَرْجُ أيْ لم أبالِ.

1 | 2